في خطوة جديدة من انتهاك حرية الرأي والفكر والتعبير والمعتقد التي يمارسها الإسلاميون بحق الدستور الذي دعموه يوما ودعوا للتصويت له بحماس، قام النائب الإسلامي "الشيخ صباح الساعدي"، بتقديم مسودة لقانون الأحزاب المطروح حاليا في مجلس النواب، تضمنت المادة السادسة منها ما يلي:
"اولا : لا يجوز تشكيل الحزب او الانتماء اليه على اساس عرقي او قومي او مذهبي او اثني او على اساس التفرقة بسبب الجنس او العرق او الطائفة او القومية او الدين والعقيدة
ثانيا : لا يجوز تشكيل الحزب على اساس الكفرا و الالحاد او الارهاب او الاباحية او التحريض عليها او كل ما يخالف الاداب العامة
ثالثا : لا يجوز للحزب ان يشكل مليشيا او قوة مسلحة او يرتبط بها او باي تنظيم ارهابي
رابعا : لا يجوز للحزب فتح مقرات له في الدوائر الحكومية التابعة للدولة بما فيها المدارس والمعاهد والكليات الاهلية او الخاصة"
ويبدو أنه حين كتب هذه المادة، كان منفصلا بالكامل عن توزيع النواب في مجلسه الموقر، وعن واقع الأحزاب المسيطرة في عراق ما بعد الحرب الطائفية الطاحنة. فهل فاته أن يعرف أن حزب الدعوة الإسلامية، والمجلس الأعلى (للثورة) الإسلاميـ(ة) العراقي، والتيار الصدري، بل وحزب الفضيلة الإسلامي الذي انتمى إليه من قبل، إنما تأسست لأجل مصالح طائفة ما، وفي سبيل وصولها إلى السلطة والسيطرة، ولم يحدث يوما أن احتوت أعضاء من طائفة أخرى؟ وهذا ما يضعها تحت طائلة البند "أولا" من هذه المادة.
وهل غاب عنه ما الذي تعنيه أسماء مثل "فيلق بدر المظفر"، و "جيش الإمام المهدي" ؟ أليست تشير إلى قوات مسلحة تابعة لأحزاب معينة، تحتل حصة الأسد ومقعد الصدارة من المناصب والوزارات، ولطالما مارست هذه القوات قدرا كبيرا من القمع والتهجير والتعذيب بحق عراقيين من انتماءات أخرى، سياسية كانت أو مذهبية؟ وهذا ما يضعها تحت طائلة البند "ثالثا" من هذه المادة.
أو لعله لم يسمع يوما بفعاليات "التجمع الإسلامي لطلبة العراق"، "رابطة الشباب المسلم" أو "رابطة الكوثر" ؟ ألا ترتبط هذه التجمعات عضويا ومبدئيا بالأحزاب الإسلامية الحاكمة التي سبق ذكرها، وتعمل على نشر أفكارها والدعاية لمنهجها؟ وهذا ما يضعها تحت طائلة البند "رابعا" من هذه المادة.
إن هذا التجاهل المتعمد لواقع الأحزاب الإسلامية الحاكمة والجهات التابعة لها، لهو مؤشر خطير على شعور الإسلاميين بأنهم فوق القانون، وأهم من الجميع، بل ويملكون الحق في التشريع لهم والتسلط عليهم. قد لا يكون هذا الشعور مستغربا منهم أو جديدا عليهم، فهم يعدون أنفسهم "ممهدين للإمام الغائب" وسالكين في سبيله وبالتالي ممتلكين لكل سلطاته، الروحية منها والزمنية.. لا يهم إن كان تمهيدهم هذا يحصل في ظل احتلال أمريكي غاشم قاسي، أكل اللحم وهشم العظم ولم يترك بيتا في العراق دون مصيبة!
ثم إن الجهل الفاضح بما تتأسس عليه الأحزاب، وهو ما تجلى في البند "ثانيا"، يفصح دون عناء عن المستوى الثقافي الضحل الذي يمتلكه قياديو الإسلام السياسي، وهذا ليس بالمستغرب منهم إن كانوا يعدون كتب الفكر الحر والدراسات المقارنة "كتب ضلال" يحرم قراءتها والتعامل بها.
فالساعدي يتخيل أن كل الأحزاب تتأسس على مواقف معينة من الغيبيات، إيجابية أو سلبية، بما أن حزبه تأسس على إرادة لحوزوي مكتهل طموح، يسعى بمكر لإعادة بناء "الإخوان المسلمين" في قالب شيعي عراقي. في حين أن الأحزاب السياسية إنما تنطلق من مناهج سياسية، حول موضوعات سياسية: فاليسار يعد نفسه مدافعا عن حقوق العمال والطبقة الفقيرة، واليمين يعد نفسه مدافعا عن حقوق الملاك والمبدعين، والليبراليون يدعون إلى حماية الحريات وتعزيزها، والمحافظون يدعون إلى ترسيخ النظام العام وعدم المساس به. ولكن كيف يستوعب هذا التصور من يعد "في ظلال القرآن" أعمق ما قرأه في الإسلام الحركي؟
لهذا، لا يوجد أي فتات من المعنى في قول الساعدي "لا يجوز تشكيل الحزب على اساس الكفرا و الالحاد" لأن الإلحاد موقف معين من مسألة معينة: هي وجود الخالق غير المرئي، واليد الخفية الغيبية التي تحرك الكون. أما في سائر الشؤون: الفلسفية والسياسية والأخلاقية، فالملحدون متباينون في مواقفهم منها كاختلاف المؤمنين أو أكثر، وهذا واضح جدا لكل من اطلع ذات يوم على التنوع في التيارات الليبرالية السياسية، أو المدارس الاقتصادية الماركسية.
وهنا نأتي إلى التهمتين الأخطر والأدهى: الإرهاب والإباحية. فما ذاقه العراقيون ومروا به من مرارة الموت، وذلّ التهجير، وألم الفدية والسلب، جعل "الإرهاب" في عقولهم مرتبطا بكل شيء مؤلم، وكل شعور مؤسي، وكل إحساس فادح. وبالتالي تكون الدعاية الدينية ضد جهة ما بأنها تشكلت على الإرهاب أو تحرّض عليه، خير وسيلة لقطع دابرها وتجييش الناس ضدها.
وأما تهمة الإباحية، فهي أمضى سلاح يستخدمه الوسط الديني ضد أي حركة تحررية اجتماعية أو سياسية، كما حصل مع القاضي المصري قاسم أمين الذي دعا لإبطال النقاب وعمل المرأة وتصويتها في كتابيه "تحرير المرأة" و "المرأة الجديدة"، فدقّ المتدينون باب بيته ذات يوم، قائلين له: "نريد أن نخرج مع المدام!" فقال لهم: "ومن يسمح لكم بهذا؟" فقالوا له: "ألست من يدعو إلى خروج النساء دون رقيب؟"، وحصل مثل ذلك مع شاعر العراق جميل صدقي الزهاوي، الذي دعا لسفور النساء وانخراطهن في المدارس الحديثة والتربية الرصينة.
كان كل ما سبق انتقادا ليبراليا عاما، يوافقنا عليه كل من يعتقد بالحريات السياسية والشخصية، مهما كان اعتقاده الديني أو الفكري الخاص. أما انتقادنا لهذا القانون المغرض، كملحدين عراقيين، فيتمثل في الآتي:
1. منذ كشر تنظيم "التوحيد والجهاد" السلفي عن أسنانه الدامية في معارك شارع حيفا، وكشفت مليشيا "جيش المهدي" الصدرية عن وجهها الكالح في معارك النجف، وشعبنا العراقي الجريح لم يشهد من المتدينين الإسلاميين، في السلطة أو خارجها، إلا العنف وسفك الدماء ومزيدا من العنف العسكري المضاد، والنهب العشوائي الإرهابي ومزيدا من النهب الحكومي المنظم.
2. عمل الإسلاميون في السلطة، والشيعة منهم بالتحديد، على قمع وإفناء كل حركة أو مجموعة دينية يمكن أن تعد نقيضا جدليا لهم، كما هو الحال مع "جند السماء" وأتباع "أحمد الحسن" وليس انتهاءً بمعارك "صولة الفرسان" التي انتهت بدخول مقتدى الصدر وأتباعه ككتلة في مجلس النواب بشروطهم أيا كانت، إضافة للعفو العام عن "عصائب أهل الحق" الإجرامية.
3. بعد أن تأكدوا من قطع دابر كل هذه التهديدات الفكرية والسياسية، بدأوا بتقليم أظافر كل حركة سياسية تقوم على أساس الفصل الكلي بين الدين والسياسة، كما هو الحال مع إغلاق وإخلاء مقرات حزب الأمة العراقية والحزب الشيوعي العراقي.
4. أما اليوم، وفي غمرة "مئوية الإصلاح" التي وعد بها نوري المالكي، فيبدو أن الإسلاميين يسعون جديا إلى تقنين الإقصاء والإبادة، عن طريق تقديمهم لشتى الذرائع التي يمكنهم اتهام خصومهم الفكريين والسياسيين بها، متمثلة بـ "الكفرا و الالحاد او الارهاب او الاباحية".
5. ومن الواضح أن من كتب هذه المسودة، يجهل المعنى الفعلي "للإلحاد" إذ يساويه بالمصطلح القرآني الأقدم "الكفر". فالإلحاد قناعة فلسفية بسيطة مفادها: أن الملحد لا يجد وراء هذا العالم، في صعوده ونزوله، ونمائه وانهدامه، ومدّه وجزره، يدا خفية منظمة تؤدي كل ذلك على أساس حكمة غير معلومة. أما الكفر فمعناه في اللغة "التغطية" وفي الاصطلاح الديني "الجحود"، أي الاعتقاد بوجود إله ما، ولكن عدم الانصياع لأوامره من باب العناد أو عدم الاقتناع.
6. إننا، كأشخاص أحرار نؤمن بحرية الاعتقاد والتعبير، وحرية تشكيل الأحزاب والتجمعات على أساس توجهات سياسية واقتصادية واضحة، لا تنادي بالإقصاء والإبادة أو تستهين بالرؤى الأخرى أو تحطّ منها، نستنكر بشدة كل هذه الخطوات القمعية التي تجاوزت بكثير ما قام به الطاغية المخلوع بحق خصومه، وندعو زملاءنا من النشطاء العلمانيين في كل التجمعات الإصلاحية والمنظمات المدنية للاحتجاج على هذا القانون الجائر والسعي إلى إبطال هذا البند واستبداله بما يتفق مع العهود والمواثيق التي صادق عليها العراق منذ استقلاله ،وينسجم مع مبادئ الدستور العراقي لاسيما المادة السابعة منه .
خالص تحياتنا لكل الأحرار في العراق، ونقول أن أملنا في عراق أفضل لن ينتهي، ما دامت أصوات الشباب الطامح للحرية والازدهار تدكّ عروش الاستبداد الديني في إيران الخضراء، ونظام البعث الطاغي يتنازل شيئا فشيئا أمام مطالب الشعب في سوريا الشمّاء..
مدونة ملحدون عراقيون
6/4/2011