الدين كإتجاه لاهوتي او طريقة حياة له خصائص جعلت الأخرين ينضمون لهذا الكرنفال الاجتماعي ، بالاضافة الى التكيفات النفسية الموجودة عند البشر والتي وجدت حاجاتها في التدين ويعتقد بعض علماء الاحاثة بان الدين قد سبق اللغة نفسها
علماء الإحاثة الآن يتقبلون بشكل كبير فكرة أن أسلافنا آمنوا بالحياة ما بعد الموت (الآخرة) منذ ما يناهز على 300000 سنة. إن عملية الدفن الشعائرية والتي ظهرت أول الأمر زمن إنسان النياندرتال في مكان ما في تلك الفترة المذكورة هي العلامة المميزة للدين في مراحله المبكرة، فطقوس الدفن تدل على مفهوم متطور لفكرة الفناء أو على الأقل هي محاولة لفهم المعاني الضمنية للموت؛ وتوجد احتمالية كبيرة وواقعية بأن الدين هو (مفهوم ما) عن الحياة ما بعد الموت سبق اللغة كواحدة من أقدم الإبداعات الإنسانية. (Jeff Schweitzer ) .إلا ان هذه الفرضية محل نظر فبرأيي بإن اللغة هي انطلاقة متناغمة مع عملية التفكير ، فأي شيء كنا نقوم به قبل اللغة هو كردة فعل غريزية من أجل البقاء ، فبداية الوعي هو بالحقيقة مع بداية اللغة عند الانسان فلا يمكن ان نفصل اللغة عن التفكير، أسلافنا قبل حوالى 100.000 عام كانوا يشبهوننا تقريبا تشريحيا ،و لكن على المستوى العقلى نحن نختلف عنهم تقريبا كما نختلف عن "الهومواريكتوس " او "الهوموهابيليس" .
إن فرضية سابير-وورف خصمت الامر ، بانه هناك اكثر من علاقة بين الفكر واللغة وتعدى الامر الى أن الاختلافات بين اللغات تؤثر في الطرق التي يفكر بها الناس، وربما في طرق تنظيم الثقافات . يقول جون ليونز صاحب كتاب اللغة وعلم اللغة :
إن من الممكن القول أن أغلب علماء النفس واللسانيين والفلاسفة يمكن أن يُقرِّوا بأن هناك تأثيرًا ما للغة على الذاكرة والإدراك والفكر، لكنهم يتشككون في قبول الصيغة الأقوى لفرضية سابير ـ وورف ويوافق رأيَ جون ليونز هذا عدد كبير من الفلاسفة واللسانيين أمثال مايكل ديفيت وكيم ستيروليني ، وريتشارد هـدسون ، و نعوم تشومسكي، وكـيت آلان ، وكلارك وكلارك ، وروبرت هول، وستيفن بنكر .الا اني اميل للحتمية اللغوية اكثر من النسبية اللغوية ،فاللغة هي من تحدد طريقة تفكيرنا والواقع يشهد بهذا ويرجى الاطلاع على كتاب جغرافية الفكر فهو يسرد الكثير من الشواهد حول الحتمية اللغوية وعلاقة الللغة بطريقة تفكيرنا .
ومهما يكن فالتدين هو بتطور مستمر بسبب تطور الانسان نفسه وتنوع رغباته وأزدياد احتياجاته ، فاصبحت الالهة المتعددة الهاً واحدا والبقية تم احتسابهم كمساعدين (ملائكة ) وهناك جحيم للمسيئين وجنات للمحسنين ، وهذا بالطبع تم وضعه لعدم احتمال فكرة ان الانسان المسيء ربما لن يحاسب على اخطائه التي سببت الى الاخرين الشعور بالالم والبؤس، ومن هذه الفقرة ندرك جيداً لماذا البشر الاقل حظاً في الحياة هم الاكثر تديناً وفق التوزيع الطبيعي . (ينتشر التدين في العراق في ا لمناطق الفقيرة اما المناطق الراقية فالدين فيها شكلي جدا ).
ان الدين وجد كتكيف نفسي لمقاومة الالغاز الغامضة (الخوف من المجهول ) فالانسان الاول ومع بداية اولى بذرات الوعي وشكل بسيط من اشكال اللغة يتسائل عن تلك الكرة النارية في السماء (الشمس ) ؟، لماذا يسقط الماء من الاعلى (المطر) ؟ لماذا نموت (الهلاك ) ؟ لماذا نكون اقوياء لايام وضعفاء لايام اخرى ؟ (المرض).
ان تلك الاسئلة هي بداية نشؤء الدين ، فقد عبد الانسان الشمس والمطر واعتقد بالتناسخ ، فهو لا يحتمل فكرة موت شريكته وانتقالها الى العدم . فالدين بهذا المعنى هو آلية تكيف نفسي تساعده على المضي قدما في الحياة والتغلب على متغيراتها ويعيطه شعور بالاطمئنان والراحة لمصيره .
لكن لغز المجهول ليس سببا كافياً لنشوء الدين ، فهو حتماً سبب الخوف من اشياء مجهولة ، كالشمس والبرق والفيضانات وبالامكان تجنبها بالتضحية بالقرابين العزيزة الى هذه الالهة. وفكرة التضحية بالقرابين لها مدلول واضح بان الانسان كان يضحي بأهم شيء لديه إلا وهو الطعام ، ففي وقتنا الحاضر اصبح الطعام واستهلاكه من المجازات شائعة الاستعمال حيث تصبح القصص الطويلة "صعبة الابتلاع" والنثر المتقعر "صعب الهضم" وضربة الحظ السعيد"حلوة" والكتاب الجيد "مثمر" والخيبة الاجتماعية "مرارة" والكتاب السهل الممتع "خفيف على المعدة" . إن كان الطعام يمثل هذا التغلغل في نفسيتنا وخطاباتنا اللفظية وتفاعلاتنا الاجتماعية والاعتقادات الدينية . فبالتأكيد هذا يمثل اهمية لنفس الطعام ، وانه كان من اعز ما يملكه الانسان .
اليوم ، نحن نطبخ اشهى والذ الاطعمة ونقدمها الى الضيوف ، فقط لنشعر الضيوف بمدى ترحابنا بهم وسعادتنا بمجيهم وطمعا بالمكانة الاجتماعية والتي لها اهمية في تعزيز فرص الاقتران المثمر مع المفضلات جنسيا لدى الطرفين ، فمالذي نتصوره عن الاجداد القدامى وكيف تقديمهم القرابين الى الالهة والتي تعلم عنهم كل شيء وهم يجهلون حيثياتها ؟.
ولمعرفة اهمية الطعام لدى الانسان القديم ممكن ان نلقي الضوء على بعض ا لقبائل الموجودة في عصرنا الحالي والتي يعتبر تطورها محدود مقارنة الى العالم المتمدن .
ففي بعض المجتمعات من مثل قبائل (الكواكيوتل) في الساحل الشمالي الشرقي الغربي لامريكا الشمالية يلقي الرجال الاغنياء هدايا مهرجان الشتاء للجماعة . حيث يحتفلون بالطعام والشراب لساعات طوال ... ويقومون مكانة الرجل بمقدار سخاء ما يولم من طعام . فالمشاركة في الطعام هي استراتيجية تقرب ومغازلة وعلامة على العلاقات الودية ، كما انها وسيلة للمصالحة بعد النزاع وكان الرجل حينما يفقد مهارته في اصطياد الفرائس فانه يفقد مكانته الاجتماعية بين ذويه ،وليس من النادر ان تطلب النساء الطلاق من ازواجهن الذين يفشلون في توفير الطعام في بعض الثقافات من مثل قبائل الفاندا والتونجا في افريقيا الوسطى وقبائل الاشنتي في المنطقة الساحلية من نيجيريا.
هذه هي اهمية الطعام ، انه شيء يساوي الحياة نفسها ، لهذا ليس بالمستغرب حينما تذكر الاديان الحديثة قصص الطعام كشيء مقدس من تاريخ الشخوص المهمين في كتبها مثل أكل حواء وادم للتفاحة وتحويل يسوع الماء الى خمرة ومضاعفته السمكتين الصغيرتين والارغفة الخمسة من الشعير لاطعام الجماهير ، كذلك تحريم اكلة لحم الخنزير . او التضيحة بالقرابين في موسم الحج الاسلامي ، واطعام المساكين كتكفير للذنوب والخطايا .
فان كان الخوف من المجهول ليس سببا كافيا لنشؤء الدين ، فلابد من وجود اسباب اخرى تعضد هذا السبب لتمثل انبثاق الظاهرة الدينية وهذا الشيء هو" الشعور بالامتنان " ، فالانسان حينما يجد الماء ينزل من السماء وفي اليوم التالي يجد بعض الاعشاب المفيدة ، فيغمره شعوراً بالامتنان تجاه القوى المتحكمة باسعاده ، مما تولدت لديه تقديس لهذه الآلهة الجديدة ، التي تختلف عن تلك التي تخيفه على طول تاريخ حياته ، واصبح الان لديه نوعين من الالهة الاولى شريرة تلحق الاذى به ان لم يضحي ببعض الحاجات المهمة والثانية تجعله يشعر بالامتنان نظرا لما تقدم له من تسهيلات للحصول على المآوى والطعام والنظافة .