في غزو الريف للمدينة..
"حينما استدعت المدينة البدو والريفيين، حدث اجتثاث: تمّ نقل ثقافة ساكنة إلى ثقافة متحركة، فتحولت المدينة في أذهانهم إلى رمز للفساد والانحلال. والخشية من سلوكها جعلت الثقافة الساكنة تنكمش داخل ذاتها، في أنماطها السلوكية الثابتة، قبعت متخوفة من المتطور والمتغير.. "

سأحاول هنا أن أتعرض للمشكلة الأكثر قاعدية في مجتمعات الشرق الأوسط، والتي أثبتت حركة التاريخ المعاصر أنها السبب الرئيس في تفتت العواصم العربية ووقوعها فريسة بيد التيارات (أو العصابات) الإسلامية والقومانية (أما الشيوعية فقد كان لها زمانٌ متألق مجيد في السحل والشنق، ولكن بريقها خبا مع إنزال الراية الحمراء من فوق الكرملين).
وهذه المشكلة، التي جعلتُها عنوان المقال، هي ظاهرة غزو الريف للمدينة على موجات متباعدة إنما كثيفة.. ولها - ككل المشاكل المركبة في مجتمعاتنا العربية - أسباب اقتصادية واجتماعية متأصلة، سأتطرق لبعضها بمقدار إحاطتي واستيعابي. وقبل الحديث عن الآثار السياسية والاقتصادية التي نتجت عن هذه الظاهرة، يجب أن تقدّم عدّة أفكار بين يدَي النقاش في الموضوع.
أولاً: نظرة الريفي إلى المدينة.
يمكن أن نقول، مستعيرين صورةً من القصص الديني، أن الريفي ينظر للمدينة كنظرة آدم إلى الشجرة المحرمة ــ فيها رغبة واشتهاء، وفيها خوف وتأثّم.. ذلك لأنّه لا يغفل أبداً عن الهوّة المادية السحيقة التي تفصل بين بيئته المختلفة الضيقة، والمدينة الكبيرة المليئة بالناس والتجار والحكّام، التي تطفح بالمال إلى حدٍّ يتبادل فيه الأشخاص يومياً مبالغ لا يحلم عقل الريفي المحدود بتصوّر قدرها، دون أن يجمح خياله في لحظة شطط إلى تملّكها أو تبذيرها. وفي نفس الوقت، يحول بينه وبين التخطيط الجادّ للهجرة إليها حاجزٌ شديد من القِيَم والاعتبارات التي قد تتشكل في ثيمة شبه-دينية، خصوصاً ما يتعلق منها بالعلاقة مع الوجه المظلم من الجنس البشري ــ النساء. (1)

فالمدينة، بسبب أخلاقها القائمة على المنفعة المادية، دائماً ما تعطي المرأة مساحةً واسعةً من الحقوق تجعلها في وضع يعتبر جنونياً أو إباحيّاً بالنسبة للأعراف الريفية.. فمن حقّها أن تتجول لوحدها، وأن تذهب إلى المدارس والأسواق والمكاتب الرسمية، وأن تلبس ما شاءت، وتختار لرفقتها من شاءت ــ نساءً أخريات للصداقة، أو رجالاً قد تقع مع أحدهم في علاقة عاطفية جميلة.. هذا بالإضافة إلى حقّها الرسمي في التملّك، وعائديتها المالية المستقلة، وتمكّنها من المنازعة القانونية إن أخذ منها شيء غصباً.
وهذا النمط من النساء، اللاتي يتصرفن باستقلالية وثقة، لا يسهل فهمه على ذهنية الريفي أبداً، ولكنه يستطيع استيعاب نمطٍ آخر من النساء بسهولة أكبر، وهنا نعني العاملات في مجال إرضاء الرغبات الذكورية، من راقصات وبغايا.. وهذه السهولة تأتي من كون هذا النمط هو الضدّ الأصيل لكل المواصفات التي تربّى على كونها تجعل المرأة ’شريفة‘، كأن لا تفارق البيت، ولا تتكلم مع الرجال، ولا تجعل للحبّ سلطاناً عليها ــ وإن فعلت تقتل لأنها ’عاشگة‘. ’والأشياء تُعرَف بأضدادها‘ كما قيل قديماً.

ثانياً: التجاذبات بين مجتمع الريف ومجتمع المدينة.
المجتمع الريفي متكوّنٌ من لُحمة قبلية تجمع بين أفراده، تماماً كسلفه البدوي، وهو يعتمد على مبادئ مشابهة في أكثرها لعوائد البدو، وأهمها: التشديد على كثرة العديد، والموقف الدوني من المرأة. فالريف ذو الطابع الزراعي يحتاج بشدة إلى الأيدي العاملة، خصوصاً على المستوى العائلي، حيث يعمل الأبناء والإخوة وأبناء العمّ معاً في زراعة الأرض وتعميرها، بحيث تكون الاستفادة من حاصلها أكبر ما يمكن وللعائلة حصراً، دون أن ’يخش بيناتهم غريب‘ كما في العامية العراقية. (2)
ولأنّ الزراعة والتسويق تحتاج جهداً كبيراً ومخالطةً، بشكلٍ ما، مع المجتمع، فقد أصبح غالبية الزرّاع رجالاً، واقتصر دور النساء على العمل المنزلي المعتاد، وأحياناً كثيرةً كان يعهد إليهن بالتعامل مع المواشي ــ كالأبقار والجواميس. أما مجتمع المدينة فهو غالباً خليط غير متجانس، يجمع بين المتناقضات في الأنساب والطبقات.. وهو خلافاً للمجتمع الريفي لا يقوم على أساس الرابط العائلي، بل يعزّز النزعة الأنَوية والنفعية إلى أقصى حدّ، بسبب طبيعة التعاملات التي تجري فيه وترسم له شكل الحياة اليومية.
إن نظرة الريفي إلى مجتمع المدينة فيها شيء كبير من الغرابة، فهو ينظر إليها كوحدة واحدة، ويتعامل معها - في أوقات المشاحنة والخصومة - كقبيلة أخرى.. ولطالما حدثت في العراق معارك بين قبائل ومُدُن، ذكر أمثلةً منها الأستاذ الوردي في كتاب ’دراسة في طبيعة المجتمع العراقي‘. وهذه النظرة الخاطئة سبّبت للتجمعات الريفية النازحة مشاكل رهيبة في التعايش مع واقع المدينة، سنتناول بعضها بالذكر لاحقاً.
_________________
(1) لستُ أعني أن أقصد كونهن ’وجهاً مظلماً‘ بشكل دائم، بل كنت أعني ما هو الحال عليه في الريف، حيث يكون التعامل معهن كالتعامل مع رؤوس المواشي، وأحياناً أقل باعتبار أن المرأة لا تدرّ لبناً ولا تخرج صوفاً، بل تأكل ولا تعطي، والتحرّج من ذكرهن على أشدّه ــ فلا يذكرن باسمٍ ولا كنية، ودائماً ما يقدّم عند ذكرهن عبارة ’مكرّم السامع‘ أو ’الحُرمة وداعة الخيّر‘ وما أشبهها.
(2) هذا الهاجس الذي يقضّ مضاجع عرب البادية والريف، له أصول تاريخية عريقة إلى عهود قبل-إسلامية، تجلّت في فتاوى بعض أئمة المذاهب المبكرة. أذكر روايةً عن جعفر بن محمد (المعروف بالصادق) أنه سئل مرّة عن المرأة المتوفى زوجها، هل ترث من الأرض والعقار؟ فقال: ترث من الريع (الوارد أو الإيجار) ولا ترث من العقار، فقيل له: ولماذا؟ فقال: لكي لا تُدخل عليهم الأجنبي.
"حينما استدعت المدينة البدو والريفيين، حدث اجتثاث: تمّ نقل ثقافة ساكنة إلى ثقافة متحركة، فتحولت المدينة في أذهانهم إلى رمز للفساد والانحلال. والخشية من سلوكها جعلت الثقافة الساكنة تنكمش داخل ذاتها، في أنماطها السلوكية الثابتة، قبعت متخوفة من المتطور والمتغير.. "
ــ من رواية ’فسوق‘، للأديب السعودي عبدُه خال

سأحاول هنا أن أتعرض للمشكلة الأكثر قاعدية في مجتمعات الشرق الأوسط، والتي أثبتت حركة التاريخ المعاصر أنها السبب الرئيس في تفتت العواصم العربية ووقوعها فريسة بيد التيارات (أو العصابات) الإسلامية والقومانية (أما الشيوعية فقد كان لها زمانٌ متألق مجيد في السحل والشنق، ولكن بريقها خبا مع إنزال الراية الحمراء من فوق الكرملين).
وهذه المشكلة، التي جعلتُها عنوان المقال، هي ظاهرة غزو الريف للمدينة على موجات متباعدة إنما كثيفة.. ولها - ككل المشاكل المركبة في مجتمعاتنا العربية - أسباب اقتصادية واجتماعية متأصلة، سأتطرق لبعضها بمقدار إحاطتي واستيعابي. وقبل الحديث عن الآثار السياسية والاقتصادية التي نتجت عن هذه الظاهرة، يجب أن تقدّم عدّة أفكار بين يدَي النقاش في الموضوع.
أولاً: نظرة الريفي إلى المدينة.
يمكن أن نقول، مستعيرين صورةً من القصص الديني، أن الريفي ينظر للمدينة كنظرة آدم إلى الشجرة المحرمة ــ فيها رغبة واشتهاء، وفيها خوف وتأثّم.. ذلك لأنّه لا يغفل أبداً عن الهوّة المادية السحيقة التي تفصل بين بيئته المختلفة الضيقة، والمدينة الكبيرة المليئة بالناس والتجار والحكّام، التي تطفح بالمال إلى حدٍّ يتبادل فيه الأشخاص يومياً مبالغ لا يحلم عقل الريفي المحدود بتصوّر قدرها، دون أن يجمح خياله في لحظة شطط إلى تملّكها أو تبذيرها. وفي نفس الوقت، يحول بينه وبين التخطيط الجادّ للهجرة إليها حاجزٌ شديد من القِيَم والاعتبارات التي قد تتشكل في ثيمة شبه-دينية، خصوصاً ما يتعلق منها بالعلاقة مع الوجه المظلم من الجنس البشري ــ النساء. (1)

فالمدينة، بسبب أخلاقها القائمة على المنفعة المادية، دائماً ما تعطي المرأة مساحةً واسعةً من الحقوق تجعلها في وضع يعتبر جنونياً أو إباحيّاً بالنسبة للأعراف الريفية.. فمن حقّها أن تتجول لوحدها، وأن تذهب إلى المدارس والأسواق والمكاتب الرسمية، وأن تلبس ما شاءت، وتختار لرفقتها من شاءت ــ نساءً أخريات للصداقة، أو رجالاً قد تقع مع أحدهم في علاقة عاطفية جميلة.. هذا بالإضافة إلى حقّها الرسمي في التملّك، وعائديتها المالية المستقلة، وتمكّنها من المنازعة القانونية إن أخذ منها شيء غصباً.
وهذا النمط من النساء، اللاتي يتصرفن باستقلالية وثقة، لا يسهل فهمه على ذهنية الريفي أبداً، ولكنه يستطيع استيعاب نمطٍ آخر من النساء بسهولة أكبر، وهنا نعني العاملات في مجال إرضاء الرغبات الذكورية، من راقصات وبغايا.. وهذه السهولة تأتي من كون هذا النمط هو الضدّ الأصيل لكل المواصفات التي تربّى على كونها تجعل المرأة ’شريفة‘، كأن لا تفارق البيت، ولا تتكلم مع الرجال، ولا تجعل للحبّ سلطاناً عليها ــ وإن فعلت تقتل لأنها ’عاشگة‘. ’والأشياء تُعرَف بأضدادها‘ كما قيل قديماً.

ثانياً: التجاذبات بين مجتمع الريف ومجتمع المدينة.
المجتمع الريفي متكوّنٌ من لُحمة قبلية تجمع بين أفراده، تماماً كسلفه البدوي، وهو يعتمد على مبادئ مشابهة في أكثرها لعوائد البدو، وأهمها: التشديد على كثرة العديد، والموقف الدوني من المرأة. فالريف ذو الطابع الزراعي يحتاج بشدة إلى الأيدي العاملة، خصوصاً على المستوى العائلي، حيث يعمل الأبناء والإخوة وأبناء العمّ معاً في زراعة الأرض وتعميرها، بحيث تكون الاستفادة من حاصلها أكبر ما يمكن وللعائلة حصراً، دون أن ’يخش بيناتهم غريب‘ كما في العامية العراقية. (2)
ولأنّ الزراعة والتسويق تحتاج جهداً كبيراً ومخالطةً، بشكلٍ ما، مع المجتمع، فقد أصبح غالبية الزرّاع رجالاً، واقتصر دور النساء على العمل المنزلي المعتاد، وأحياناً كثيرةً كان يعهد إليهن بالتعامل مع المواشي ــ كالأبقار والجواميس. أما مجتمع المدينة فهو غالباً خليط غير متجانس، يجمع بين المتناقضات في الأنساب والطبقات.. وهو خلافاً للمجتمع الريفي لا يقوم على أساس الرابط العائلي، بل يعزّز النزعة الأنَوية والنفعية إلى أقصى حدّ، بسبب طبيعة التعاملات التي تجري فيه وترسم له شكل الحياة اليومية.
إن نظرة الريفي إلى مجتمع المدينة فيها شيء كبير من الغرابة، فهو ينظر إليها كوحدة واحدة، ويتعامل معها - في أوقات المشاحنة والخصومة - كقبيلة أخرى.. ولطالما حدثت في العراق معارك بين قبائل ومُدُن، ذكر أمثلةً منها الأستاذ الوردي في كتاب ’دراسة في طبيعة المجتمع العراقي‘. وهذه النظرة الخاطئة سبّبت للتجمعات الريفية النازحة مشاكل رهيبة في التعايش مع واقع المدينة، سنتناول بعضها بالذكر لاحقاً.
_________________
(1) لستُ أعني أن أقصد كونهن ’وجهاً مظلماً‘ بشكل دائم، بل كنت أعني ما هو الحال عليه في الريف، حيث يكون التعامل معهن كالتعامل مع رؤوس المواشي، وأحياناً أقل باعتبار أن المرأة لا تدرّ لبناً ولا تخرج صوفاً، بل تأكل ولا تعطي، والتحرّج من ذكرهن على أشدّه ــ فلا يذكرن باسمٍ ولا كنية، ودائماً ما يقدّم عند ذكرهن عبارة ’مكرّم السامع‘ أو ’الحُرمة وداعة الخيّر‘ وما أشبهها.
(2) هذا الهاجس الذي يقضّ مضاجع عرب البادية والريف، له أصول تاريخية عريقة إلى عهود قبل-إسلامية، تجلّت في فتاوى بعض أئمة المذاهب المبكرة. أذكر روايةً عن جعفر بن محمد (المعروف بالصادق) أنه سئل مرّة عن المرأة المتوفى زوجها، هل ترث من الأرض والعقار؟ فقال: ترث من الريع (الوارد أو الإيجار) ولا ترث من العقار، فقيل له: ولماذا؟ فقال: لكي لا تُدخل عليهم الأجنبي.
سأكتب حلقات أخرى في تكملة هذا المقال لاحقاً، فانتظروني أيها الأحبة.
ردحذفانتضر الاجزاء الاخرى من المقال بفارغ الصبر.
ردحذف