الأحد، 10 يناير 2010

موس أوكام، والله في الإسلام

كيف تستغل الحجج اللاهوتية ضد فكرة الله؟


في ساحة الفلسفة والعلم، هناك العديد من القواعد المبنية على "الحس المشترك" ـ أي المعارف الأساسية التي يتفق عليها كل إنسان عاقل، ولكنها لا تُطرح غالباً بصيغة قريبة للمتلقي العادي، الذي لا يُشترط فيه التخصص.

ومن هذه القواعد المهمة، "قاعدة التقتير" المشهورة باسم "موس أوكام Occam's Razor"، نسبة للقس الفرنسسكاني "وليم الأوكامي William of Ockham" الذي عاش في إنكلترا خلال القرن الرابع عشر، الذي سيطرت فيه "الفلسفة المدرسية" على غرف المدارس والأديرة كما في عقول القاطنين فيها، وكان صديقنا "وليم" أحد منظّريها الممتازين.


William of Occam


نشأت هذه الفلسفة كردة فعل "تحسسية" على مؤلفات ابن رشد التي أعادت قراءة تراث أرسطو الخلاق، بعربية فصيحة تحاول التوفيق بين الفلسفة والإسلام. إذ أحسّت الكنيسة بالخطر الثقافي الذي يهددها، نتيجة الجمود الفلسفي الذي عاشته مدارسها طيلة قرون طوال، منذ مقتل هيباتيا الإسكندرية (خاتمة الفلاسفة) على يد الأرثوذكس الدهماء، وإعلان الفلسفة كإحدى المعارف الخاضعة لسيطرة المؤسسة اللاهوتية المسيحية، والتي لا يحق للعَلمانيين (أبناء العالم، غير المندرجين في خدمة الكنيسة) أن يتلاعبوا بها.


Rachel Weisz as Hypatia, in Agora (2009)


فبدأت حركة ترجمة قوية إلى اللاتينية (لغة العلم والدين في الكنيسة) في الجانب المسيحي من الأندلس بالإضافة لإيطاليا، كان أشهر رموزها جيرارد الكريموني، الذي ترجم لوحده ثلاثة وسبعين عنواناً عن العربية، في الرياضيات والفلسفة والطب، بالإضافة إلى "إعادة اكتشاف" لنصوص يونانية كانت تعد مفقودة في خزائن الكنيسة.
وبعد أن توفر "الأساس" بلغة مفهومة وأسلوب واضح، لم يعد أمام الرهبان الشباب إلا "البناء" الفكري الذي يملأ عقولهم نشاطاً وعلماً، كما امتلأت مشاعرهم بالولاء للكنيسة وعريسها الإلهي "يسوع المسيح".


St. Albertus Magnus, the German


نشأت على أيدي هؤلاء الرواد، أمثال بيتر أبلارد Peter Abelard، والقديسين ألبرت الجليل Albertus Magnus، وبونافنتورا (جون الفيدانزي John of Fidanza)، "ومعلّم الكنيسة" توما الأكويني Thomas Aquinas، بالإضافة إلى صديقنا الأوكهامي، فلسفة جديدة عُرِفت "بالمدرسية Scholasticism"، لأنها تشكلت في قلب المدارس التابعة للأديرة، بل حتى الجامعات في ذلك الوقت كانت في الأساس أديرة ـ كما كان حال أكسفورد وكامبردج.
وكان الغرض الأساسي من مباحث هذه الفلسفة، هو أن تؤسس للاهوت أرسطو-أفلاطوني رصين، يوفر أجوبة معقولة على كل تفاصيل اللاهوت المسيحي، وبالخصوص على الإشكاليات التي تقع بين "التوحيد" الربوبي "والتثليث" المسيحي.


Carrie-Anne Moss as Trinity, in The Matrix trilogy


ولم يكن "موس أوكام" في الأساس، إلا محاولة للإجابة على الإشكال اللاهوتي التقليدي: " هل يجوز أن يُعتبر العالم صنيعة لأيادي آلهة مختلفة؟ أي: ما هي الضرورة التي تقودنا للإيمان بإله واحد كخالق لهذا العالم؟ "
فأتى أوكام بعبارته الموجزة، التي كان صوتها مسموعاً بصيغة أو أخرى في كتب الفلاسفة الإسميين nominalists * من قبل، التي تقول:

Numquam ponenda est pluralitas sine necessitate
لا تُفتَــرَضُ الكَــثْرَةَ أبَداً إلاَّ لِضَـــرُورَةٍ


ليردّ على هذا الإشكال، ويقول أن "الإله الواحد" هو وحده ما يحق لنا افتراض وجوده عقلاً، لأن افتراض ما زاد عنه يقتضي وجود دليل قطعي وضروري يثبت وجود آلهة أخرى.

وعُرِفَت هذه العبارة، في لسان الفلاسفة، "بالموس" لأنها تشذّب البناء المنطقي من كل الزوائد غير الضرورية، وتبقي على البرهان البسيط الذي يفي بالنتيجة، دون استفاضة ولا حيود عن السياق.

لكن استخدامها لم يقتصر على الفلسفة واللاهوت فقط، بل امتدّ إلى المنهج العلمي بعد الثورة التجريبية التي بدأها غاليليو غاليلي، وإسحاق نيوتن. فصداها يتردد في القواعد الأربع للطريقة التجريبية، التي وضعها الفيلسوف الإنجليزي "جون ستيوارت ميل"، وبالخصوص قاعدته الأولى: "إذا كانت كل تفاصيل الظاهرة تحدث بوجود عامل محدد، وتغيب بغيابه، فهذا العامل هو سبب رئيس للظاهرة".


Sir Isaac Newton, scientist, philosopher, and theologian;
portrayed in his 4os.


وحتى إلى طريقة "التشخيص التفاضلي" في طب التشخيص، كما ظهر في المسلسل الطبي الرائع ".House, M.D"، الموسم 1، الحلقة 3، والتي سميت أيضاً "Occam's Razor" على اسم القاعدة التي نتحدث عنها.

فالمريض فيها، وهو شاب في العشرينات، يصاب بسعال خفيف، فيذهب للصيدلية ليشتري حبوباً ضد الإنفلونزا. ولكن الصيدلي يتشوش بين دواء الإنفلونزا، وبين دواء النقرس الذي يشبهه في اللون، ويسمى "كولجيسين Colchicine".

فيُصاب الشاب بطفح جلدي ملحوظ، ثم ينهار تنفسه خلال جماعٍ محموم مع خطيبته، فيُنقل إلى المستشفى على عجل. وهناك يشعر بألم في بطنه، ولا يستجيب ضغطه العالي لإروائه بالسوائل، ويصل الأمر إلى خطر الفشل الكلوي. بالإضافة إلى انخفاض عدد كريات الدم البيض، الذي يجعل جهازه المناعي مهدداً بأبسط هجوم فيروسي.


A scene from House 1x03 episode, "Occam's razor,"
first aired: November 30, 2004.


ويظل الفريق الطبي، وعلى رأسه الدكتور هاوس (بطل المسلسل)، يتداولون احتمالات متباينة وغريبة بعض الشيء، إلى أن يلتفت هاوس إلى أن هذه الأعراض (الألم البطني، الطفح الجلدي، الفشل الكلوي، انخفاض الك.د.ب) كلها نتائج لسبب واحد، هو التسمم بالكولجيسين، أما السعال فهو ما كان يجب أن يعالجه دواء السعال، الذي اشتبه بالكولجيسين لدى الصيدلي.


حبن شاهدتُ هذه الحلقة لأول مرة، في 2006 كما أذكر، أثار هذا المبدأ أموراً كثيرة في عقلي، لم أكن أدرك وقتها أنها ستكون السبب في تحرري من قيود الإسلام الفكرية.
فقد كنتُ وقتها قرآنياً متمكناً، متفتح العقل بعض الشيء ــ ولعل مردّ ذلك هو شغفي الدائم بالمطالعة والكتب المتنوعة، الذي توفرت لي مصادر لإشباعه على شبكة الإنترنت.

وكانت للمفكر الذي تشبعتُ بأفكاره وقتها، رؤية فلسفية مختلفة عن اللاهوت الإسلامي المعتاد، يفترض فيها أن غاية الفلسفة هي "العلم بمجهولية الواحد المعلوم" أي الله، مستنداً إلى آية "قل هو الله أحد".
وكذلك تدّعي أن العلم الحقيقي ** هو ذلك الذي يتخذ من مقولة "المجهولية" منطلقاً له، ويتحرّى الخضوع للأدلة الشرعية والإشارات الإلهية ولا يسبقها بظنه وتكبره.


أهم الأفكار التي بدأت تدور في عقلي، هي ما يعبر عنها هذا التساؤل: " لماذا يتعامل الدين - إجمالاً - مع ثنائية: الكون والإله؟ هل هناك إمكانية لحذف الإله من المسألة، ليبقى الكون وحده كموضوع ؟ "

تلت هذه المرحلة القصيرة من التساؤل، مرحلة من البحث وجمع الموارد في الموضوع.
فبدأت بالتنقيب عن التفسيرات العلمية التي تؤسس للكون كموضوع وحيد وأزلي، بالإضافة إلى الأدلة الفلسفية التي تعزز هذا الموقف الإلحادي.

وأكثر ما نفعني فيها أمران: كتاب "الهيولى تصنع علماً جديداً" حول نظرية الشواش/الهيولى Chaos Theory، والمقالات الفلسفية التي وضعها الأستاذ Enki *** على مدونته "باب مدينة الإلحاد".

فبدأت أفكر جدياً في الرؤية التي تنص أن "يمكن للنظام المستقر والمتناسق أن يتولد من عمليات شواشية صرفة، غير مقيد إلا بحدود الإنتروبيا للمادّة التي يتكون منها"، أو بعبارة فلسفية: "يمكن للكون أن يكون، بكل تفاصيله وتعقيداته، صنيعةً لا لفاعل ذي إرادة ووعي، بل لفاعل بالطبع تصدر عنه الأحداث ذاتياً بلا تخطيط أو ذاكرة".


وكما يعلم كل مطّلع على اللاهوت وعلم الكلام: فالأديان الثلاثة (اليهودية - المسيحية - الإسلام) تقدم مفهوماً مركباً للإله، فهي تنسب له العلم الكلي (واختلفوا: هل يتعلق بالأحداث قبل حصولها أو لا) والمشيئة الواسعة (أكثرهم يقولون بأنها واسعة بما يكفي لنقض مشيئاته السابقة) والسمع والبصر (نسبة كبيرة منهم تقول بأنها مجاز يقصد به وسائل العلم والتواصل، وليست حواساً أو وسائل مادية)، والإرادة النافذة (حتى في خلاف العدل الذي تقر به عقول البشر)، وبالإضافة لكل ذلك: الوعي المستمر والملاحق لأفعال كل خليقة في الكون.


Though they're busy, they still exchange their minds.


المشكلة في هذا المفهوم - طبقاً لموس أوكام - أنه يزداد تعقيداً بشكل أسي exponential مع كل صفة تنسب إلى هذا المفهوم الإلهي، بالإضافة إلى افتقاره للأدلة الخارجية (أعني: من خارج مرجعية الغيب التي يصدر عنها الدين الموحى) التي تقدم له السند المنطقي الكافي لإثبات هذه الصفات لأي ذات عارفة، خارج الزمان والمكان، فضلاً عن إثبات وجودها في المقام الأول.

فافتراض الإله الديني يتطلب دوماً المزيد والمزيد من الافتراضات، التي تتناقض مع ذات المبدأ الذي خرج من عقول أصحاب الأردية الغامقة، ليقنعوا الناس بوحدانية الإله الذي يعيشون باسمه، ويحتكرون مختلف أنواع السلطات من خلال ربطها بإرادته.

هذا، رغم أن تفسير الوجود والكون والحياة، وكل العجائب التي تحيط بنا، لا يحتاج لكل هذا التعقيد الذي لا يتعدى "بناء قصورٍ لفظيةٍ في الهواء"، لأن الطريقة العلمية في تفهّم العالم لا تعتمد الافتراض الصرف أو التحكّم المحض. بل تقوم على رصد الظواهر الطبيعية القابلة للتكرر بشكل دقيق، ثم التحقق من العوامل التي قد تكون ذات تأثير فيها، بحثاً عن الرؤية العقلانية التي تربط المؤثرات معاً لتنتج الظاهرة، ثم العودة للظواهر للتأكد من الروابط المقترحة، وهكذا..



إن عدم معرفتنا للعديد من مجاهيل الكون والحياة، التي يسميها المدافعون عن "إله الفراغات" أسراراً ربّانية، ليس دليلاً على العجز البشري، بل هو أحد التحديات التي يجد العلم نفسه قادراً على حلّها، بمشيئة أصحاب العقول النافذة والنفوس القوية.
وعلى الإنسان أن يتذكر دوماً، أن أسلافه نسبوا الحرّ المحرق والبرد القارس، والجفاف كما الفيضان، إلى غضب الآلهة وسخطها، وادّعوا أن الخسوف والكسوف يعود سببهما إلى ابتلاع "الحوتة السماوية" لذلك الجُرم العالي.. ولكن العلم أتى بالتفسير المنطقي التجريبي، الذي قضى على الخرافة مرة وإلى الأبد.


__________________________________

* الفلسفة الاسمية: هي مدرسة فلسفية ظهرت في القرون الوسطى، واشتهرت باعتقادها أن الأسماء التي تدل على كلّي (كالإنسان، الحصان، الصخر) هي وحدها الموجودة فعلاً، أما الأفراد المختلفة فهي من صنع العقل، ليستطيع التعامل مع كل فرد على حدة.

** أي ما يعبّر عنه بالعرفاني، الفيضي، الموهوب ـ وكلها مفاهيم وهمية لا تحقق لها واقعاً، وأدل دليل على عدم وجودها هو عدم استفادة أصحابها منها في تغيير حالهم وحال المحيطين بهم.
سنتناولها بالنقاش والتفكيك في مقالات لاحقة تحت عنوان: الفكر الديني وأسطورة الاكتمال.

** هو مهندس يحمل شهادة الدكتوراه في الذكاء الاصطناعي، يعمل مدرساً في بريطانيا.
وإليه يعود الفضل في تأسيس شبكة الطبيعيين الوجوديين (وذراعها الحواري: منتدى طبيعي) لتلمّ شتات الكتاب اللادينيين العرب، لاسيما الذين ضجروا من السياسة الاستبدادية للمنتديات اللادينية الأخرى، التي اتخذت بمرور الزمن طابعاً قومانياً/اشتراكياً متعصباً.

هناك تعليق واحد:

  1. ابدعت صديقي ومتى لم تبدع!
    مقاله من اروع ما قرأت منذ زمن.

    ردحذف